على شاطئ الغربة

موضوع: على شاطئ الغربة 2009-03-29, 12:41

حينما ينأى بك المنفى بعيداً عن أرض الوطن ، تشعر أن ثمة علاقة طردية هناك بين الاغتراب المكاني والاغتراب القيمي لتوكيد الذات ، فالشيء لم يعد ذاته ، أو هو نفسه في المنفى .. ( الذات ) هي الأخرى تبحث عن ذاتها .. تبحث عن إطار يتضمنها لا أن يلغيها ، تبحث عن مقياس يسجل أرقاماً ثابتة لكل قيمة إنسانية تحرر صورتها الملغية في الوطن الأم ، وتطلقها على طبيعتها في الوطن المنفى دون أدنى تغيير أو تحوير .. وفي قصيدة " لأني لست في وطني " للشاعر العراقي المعروف مصطفى المهاجر رأيت تجسيداً كاملاً لهذه العلاقة الطردية . ورغم أن هذه العلاقة تثير الفزع في النفوس لما تختزنه من خطورة تهدد المحافظة على الذات ، إلا أن مصطفى المهاجر هنا تناولها تناولاً رقيقاً شفافاً كما عهدناه في معظم قصائده..

القصيدة كتبت في عام 1986 حيث كانت الحرب العراقية الايرانية مشتعلة الأوار ، والضحايا تتبعها ضحايا ، وهذا المشهد المرّ خليق بأن يثير مشاعر الشعراء ويدفعهم الى أن يكرسوا كل عواطفهم باتجاه تصوير هذه المحنة الكبيرة .. إذن لماذا التفت المهاجر بعيداً عن هذه الأجواء ليسلط الضوء من خلال قصيدته هذه على الجانب النفسي المغفول في أرض الغربة .. لا شك ‘ن ما جاء في القصيدة من معان ومعاناة لا يعد تجربة شخصية للشاعر وحده ، بل يشترك معه كل أبناء العراق الذين نفتهم السلطة الغاشمة كرهاً خارج الوطن ، وليس هو إلا صوت هذه الملايين التي مزقتها الغربة وتركت آثارها السلبية على تفصيلات حياتهم الفردية والجماعية .. يقول المهاجر :

لأني لست في وطني

أحس مرارة الأشياء

في حلقي

تلك هي صورة نقية ليس فيها أي لون من ألوان التكلف ، ولم يعان المهاجر هنا – كما أظن – في إخراجها لتعبر عما في داخله من انطباع مر يضفي مرارته على جميع الأشياء بلا استثناء ، رغم أنه اختار مفردة الحلق الذي هو مصدر الشعور بالمحسوسات المادية ، فالذائقة هنا عند الشاعر ليست اللسان ، بل الحزن الثقيل المدلهم الذي يجثو على قلبه دونما رحمة ويحول طعم الأشياء جميعها الى علقم مر لا يشعر معه بهناء مطلقاً .

لأني لست في وطني

أحس قساوة النظرات

في الحدق

الانتقال هنا ، جاء انسيابياً محسوباً لا تفصل بين معناه ومعنى البيت الأول فاصلة ، فالموضوع واحد ولكنه جاء من وجه آخر ، وجه أعم وأشمل بوقعه الايقاعي الثقيل على النفس فقساوة النظرات تعني ردود الفعل الاجتماعية تجاه الغريب ، وليس الشاعر هنا سيء الظن الى الحد الذي يتهم به الناس جميعاً بالقساوة والغلضة مع الغريب ، إنما هو شعور ذاتي بصرامة المحنة وضغوطها النفسية التي تجعل الذات قلقة في توازنها الى الحد الذي تشعر معه بعتبة الفرق بين كل مفردات الحياة ولو كان هذا الفرق ضئيلاً جداً .. الصورة هنا مرآة تعكس الواقع بما هو ، الى الذات بما تشعر .

ومن أقرب أحبابي

أحس بجفوة الكلمات

والخلق

هنا يحتوي الشاعر على كل مفردات الغربة ، لينقل صورتها بما تحمله من سلبيات تنطلق أيضاً من التغيرات التي تطرأ على أصالة الذات فتصبغها بأسقام المنفى ، وكل هذه الأسقام نفسية يدرك الجميع أنها هجينة وعابرة وليس لها حظ في البقاء ، لكن المهاجر هنا لا يقوى على عدم الاشارة إليها ، لأنها جزء من انسانيته جزء من وجوده وقيمته التي دافع عنها وضحى من أجلها .. الخطاب هنا قاتل مميت لأنه يخضع الذات الى المحاكمة والنقد .

لأني لست في وطني

يؤرق عيشتي

أرقي

يبرز هنا تصوير الصمت وتجسيده من خلال الثورة الكامنة في أعماق الشاعر .. تلكم الثورة متأججة لكنها محاصرة مقيدة ومكبوتة ، فتظهر في صورة " أرق " قاتل رهيب يسد منافذ الراحة على الغريب .

لأني لست في وطني

أعامل مثل مرتزق

ومن بلد الى بلد

يحاصر خنجر عنقي

ومن درب الى درب

يطوق سدهم طرقي

ربما وجد الشاعر هنا منفذاً لكي يدفع من خلاله بعض حممه التي ألهبت جوفه كمداً وحسرة .. ومن خلال هذه الكوة أخذ يصرح أن هناك من يشترك مع الظالم في تضييع الذات تارة ، وفي تفتيتها واتهامها اتهامت قد تكون باطلة تارة أخرى ، فالحكم هنا صادر من جهة غير السلطة الغاشمة التي جعلت أصقاع العالم مواطن مختلفة لأبناء العراق .. بل الحكم هنا للمنفى بكل تفاصيله حيث هناك من يستغل " مسلوب الوطن " ليعامله معاملة المرتزق ، فإذا ما أحس منه عدم الانقياد والاستسلام والاستجابة حاصره بما يمتلك من إمكانيات ويد طائلة في على المستويين القانوني والاجتماعي على حد سواء .. تلك هي ضريبة يدفعها الغريب شاء أم أبى لأنه كما يعبر المهاجر " ليس في وطنه " وما دام كذلك ، فالإذعان مصيره ، وإلا فمنفى المنفى بانتظاره .

وأحلامي مصادرة

بسوط القمع والقلق

لأني لست في وطني

أرى الأشباح تتبعني

وتصبغ بالأسى شفقي

عودة الى الذات ، من خلال الأحلام ، المنفذ الوحيد لها ، فالواقع مخيف ، ولون الرعب يسيطر على لوحة الحياة ، لذلك ليس من سبيل سوى الهروب الى ذلك العالم الشفيف المليء بالقيم الجمالية للحياة .. ولكن هل ثمة وصول فعلي الى ذلك العالم الأخضر ؟ بالطبع لا ! لأن الأحلام هي الأخرى مصادرة من خلال عاملين ، خارجي وهو قمع السلطة والثاني داخلي هو القلق والخوف الناتجين من الضياع وضبابية المستقبل .. مما يجعل الذهن مليئاً بالأشباح والتخيلات التي تقض مضجع الغريب ، فلا تهنأ حياة له ما دام بعيداً عن الوطن .

لأني لست في وطني

سيبقى القلب في رهق

لأني لست في وطني

فلم أهنأ بمنزلة

وطعم العز .. لم أذق

هنا الخاتمة ، حيث لم يشأ الشاعر ترك هذه النغمة الحزينة التي هي حقيقة واقعة حاول التأكيد عليها في كل بيت " لأني لست في وطني " انتزع المهاجر في البيت الأخير كل شعور بالعز خارج الوطن ، بل ونفاه تماماً .. فلا سعادة ولا أمل ولا راحة للقلب .. وكل ذلك مرتبط أشد الارتباط بقيمة الوطن التي لا تعدلها قيمة .. ولو قيض الله لبشر أن يحيا حياة باذخة دونما فقر أو عوز لم يغن عنه ذلك شيئاً بغير وطنه ، لذلك كانت كلمة المهاجر الأخيرة تشير ـ بأبلغ صورة الى أن كل عز بغير عز الوطن هو ذل مقنّع .

منقول

موضوع: رد: على شاطئ الغربة 2009-04-01, 00:44

اخى طيارة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة

مالى اراك تحمل قيثارتك وتعزف لحن الالم

حقيقى هذة القصيدة لوحة تجسد المعنى

سلمت على الاختيار الموفق

تحياتى

» ايهما ارحم جنة الغربة ..ام جحيم الوطن؟؟
» اماسى الغربة
» خواطر من دفتر الغربة
» لماذا الغربة في زمن ضائع
» معاناة الغربة وماساة سودانيات