كان لابد من وقفه تجاه الحياة بفواصلها الموجعة، فإذا ما أخذناها بالتفصيل العقدي نجدها مجرد أحداث مكتوبة على جبيننا لابد أن نعيشها كما هي، ومحطات لا بد علينا من المرور بها، كما أنها مشاعر علينا مواجهتها ودموع لابد من سفكها وأيضاً مواجع لابد من تحملها، انه القدر، ألا.. (لَّن يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)
إذن الأمور في الحياة مقسمه في ميزان مسطور لا يمكن للإنسان معاندتها أو تغيرها وان استطاع برمجة أفكاره بالقوة فهو لن يساير أحداث الحياة وان نجح في التحكم بانفعالاته تجاه مفاجآتها وعمل على عزل مشاعر الألم والخسارة فان الحياة تفقد قيمتها ورونقها وتشويقها فلا شيء بدون متعة الإحساس والشعور وان كان حنقاً أو قهراً.. فالحياة بدون انفعالات الحزن.. الفرح.. الترقب.. الدهشة.. الخوف وأيضا.. السعادة مجرد بلاده وموت للحياة وللمشاعر معاً.
تمر بنا أحداث ومواقف في الحياة تمزق توافقنا النسبي وتدمر استقرارنا الروحي وتوقعنا في الدوامة المتخبطة المجنونة تسلبنا الوعي بالأحداث وترابطها لذلك نقول هي تختلف أو تزداد وتيرتها بقدرة أصحابها على التحمل وينبغي أن نعي ذلك جيداً كي نستمر ولا يعترينا الخوف فالخوف كائن غامض يغشى الأرواح بتوهمات مفرغة يصدقها المرء فتسكنه بشراسة وتتقشر أشباحها المجسدة حوله تفرض سيطرتها عليه بحيث لا مهرب منها كالعنكبوت وشبكتها وخيوطها كالحمى بحرارتها وهذيانها وتخريفها.. هكذا الخوف عدو غامض يباغتنا لحظة امتطينا جواد الوهم فهو يسكن القلوب المفجوعة الخاوية من ذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) كذلك النفوس المنكسرة التي فقدت أمنها وفقدت ثقتها في نفسها وقدراتها التي خدعها انطوائها، هكذا هي الوحدة تلغي الروح في بئر عميقة من الظنون والتهيؤات والأوجاع.. وفجأة بانهزامية يتحول تصرف بسيط من الآخرين إلي قضية وتنقلب كلمة نمطية يختزلها الصراع اليومي في الحياة إلى أزمة كبيرة تجر وراءها إلى ما لا يحمد عقباه لذا علينا كي لا نقع فريسة هذا التدرج من ضيق بالحياة إلي مرحلة خوف ينتج عنه عزل ووحدة واغتراب عن الآخرين وعن النفس وعن الحياة وما فيها.. علينا أن نستشعر الله في كل ضيق علينا أن نذكره على الدوام أن نحله في دواخلنا كي تحيطنا عنايته الإلهية حتى نصل بالاستشعار حد الإيمان، والإيمان بالله لا يعني الصلاة والصيام والخوف من الله وطاعته وأداء فروضه فحسب بل مع ذلك هو امتلاك قدرة عجيبة سحرية أخّاذة اسمها الإيمان بالله بوجوده التام فينا بوجود رحمته ومعجزاته ونصره لنا ومساعدته وتغيره الحال للأفضل (ومن يتوكل علي الله فهو حسبه أن الله بالغ أمره) بأذنه تعالي.
ولنعلم أن العقل الإنساني استطاع أن يكتشف الذرة ويحلل القضايا ويصنع القوانين ويشرح الخفايا وأصبح لكل داء دواء إلا انه يقف حائراً أمام النفس البشرية التي ظلت غابة بكراً تزداد تمنعاً وغموضاً وكلما أحس الإنسان بأنه اقترب منها لم يستطع أن يكتشف طلاسمها ولا فك لغزها فهي كل يوم في شأن. وما يؤلم الإنسان أنه لم يجد أكسير لمداواة الأرواح المجروحة التي يعتبر جبرها أصعب ملايين المرات من كسرها لذلك فهو بإحباطه لا يستطيع أن يساير الأوضاع بتجدد ولا يستطيع تحويل النفوس المنكسرة إلي أخرى طبيعية بتجرد إنما نقول بإمكانه التعديل دوما حتى وصولا إلي الأفضل لان النفس المنكسرة تئن وتتوجع تذروها رياح الإحباط فتحبط كل مساعيها فلا تدرك ما حولها مثلما العين المجردة لا تري ملايين الذرات المتطايرة في الهواء التي لا تكشفها سوى الأشعة الدقيقة ومثلما لا يستطيع العقل تفسير معرفة ساحر أو مشعوذ غريب في بلد غريب لاسم والدته أو يكشف له عن أمر شخصي لا يمكن التكهن به مثلما تستطع النفس خداع صاحبها وتمويهه فيمرض ولا يدري سبب الداء مثلما تتكلم عن أمر تجده يحدث أو تفكر به أو تسمع شيئا بحدوثه فكل هذه الأمور تدعونا إلي الإيمان بأننا نسير حول قدر مكتوب فلا نستسلم للضيق والاكتئاب والقلق فالقلق دوما يساهم في حزب الخط العاثر وإصدار الأحكام الخاطئة التي تعود إلي مزيد من ارتكاب الأخطاء والمشاكل.
إذن لابد من وسيلة لامتصاص كمية القلق والتوتر في دواخلنا لابد من وسيله لتفريغ المخاوف المجهولة التي تسكننا ولا وسيلة سوى الاستغفار لله وتفريغ كل شحنات القلق بالتسبيح فيه في ذاته ولذاته بقلب صادق ولنفهم أننا كائنات روحيه نمر بتجارب إنسانية ولسنا كائنات بشرية نمر بتجارب روحية فالبون شاسع وصدقاً لو عرف الإنسان معظم الأشياء عن نفسه وعن الكون وعظمته لما ضل عن الإله ولما تساءل حتى اليوم عن مكمن وجود الروح فيه وتناسى أن لا تسألوا عن أشياء أن تبدوا لكم تسوءكم وكانت الإجابة واضحة (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً) هذه هي الحياة التي نعيشها إنسانية محضة بل علينا أن لا ننسى خلالها مكنوناتنا الروحية السماوية.
الشيء الجميل رغم هذا وذاك أن لا نندم على الحياة التي عايشناها لأنها لاشك نحتت في دواخلنا مشاعر وأحاسيس جعلتنا نرضى بواقعنا ونتقبل قدرها ونتفهم شيئا من فلسفتها فيبقى من الوهم التشبث بحلم أو طموح أو أمنية فلكل إنسان مواطن عطاء أخرى ربما لو جربها قد يجد شقفه فيها ويستعيد بهجته وحماسه وتجدده من خلالها فإطلاق النفس للتعاطي مع الأمور تساعده علي حل معادلة وجوده وفهمه لدوران الحياة .
الحياة رحبة وواسعة ومتعددة الجوانب وان أغلق باب فيها تفتحت أبواب مشرقه أخرى تملك منح الإجابات وتتيح تقبل النفس لعطائها إذا ما أخذناها بوعي وإذا ما عرفناها بحق ولن تكون لنا هذه السعة إلا بامتلاكنا للعطاءات القرآنية هي متصالحة ومتسقة مع الزمان والمكان والإنسان في تجدد دائم من خلال أصول ثابتة وفقه متجدد فيجب الأخذ بها لغايات إبداعية في الحياة.. أخيراً نقول إذا ما أردنا أن نرقد بسلام في هذه الفانية علينا أن ندع الله في دواخلنا ولا ننسى أن الفوت والانقطاع عن ذكر الله اشد من الموت لأنه انقطاع عن الحق والموت انقطاع عن الخلق ليس إلا ولنغتنم خمس قبل خمس.