ولد "محمد ود الرضي" عام 1884م بــ "العيلفون" مسقط رأس والدته التي تنتمي للشيخ "ادريس ود الأرباب"، وتوفي عام 1982م بــ "أم ضوا ً بان"،
نشأ في بيئة صوفية ، وعند بلوغه السادسة من عمره أدخل خلوة الشـــــيخ "ادريس ود الأربــــاب"،
حيث بدأ قراءة القرآن وانتقل والـده لظروف العمل إلى "أم ضوا ًَ بان"، حيث التحق بخلوة الشيخ "العـــــبيد ود بدر"،
فحفظ القرآن على يد الخليفة "حسب الرسول ود بدر".
نظم الشعر وهو في العاشرة من عمره وهو في الخلوة فامتاز بعبقرية ظهرت في المفردات اللغوية والصور الجمالية الجديدة والمدهشة ،
قال عنه الفنان "عبد الله الماحي"..(كان "ود الرضي" لا يتلفــــت لشعر فونسته العادية تكون شعرا ً)..
الشيخ "محمد ود الرضي" اغتبط بمقامه بــ "العيلفون" ، فأحاطه الحب والحسن من كل جانب ، وعانقت أحناءه وأضلعه الأفراح والأشواق تهجدا ً وقرانا ً ،
عاشر "العيلفون" الإنسان والحيوان ، وتغذى برونق المحسنات البديعية و المفردات الحسان وأهل "العيلفون" هم أهل الخيال والحواس وبيض العلا وسمر اللداه ،
قرأ كتاب الله و حفظه ، وقرأ العلم والحديث وفي مناخ "العيلفون" اعتلال واشفاق وحنان ، واستمالت الخضرة وجدانه ،
وحال الندى في قلبه شمولا ً فيه الطيور وينهال البدر الشموس وتتوج عنده الأحاسيس والذكريات والخواطر وتمتزج بكل نجم زاهرة ،
فاستعرت حياته نارا ً بلا لفح يتضرم وسط ماء لايذوب وكأن "العيلفون" بقايا سحر "بابل".
بحث عن الطوق وهو في هذا العالم السحري ، وأصبح لا يستيقظ إلا على جمال ، و لا تغمض عيناه إلا عن جلال ، وهو يسبح ويكبره ،
فألقته هذه الطبيعية الخلابة ، فتكشفت له روضة حُسن ومودة ، وأضحى عمره صفاء وخضرة ، سقت له رنة معطرة الأنفاس تنشرق عبيرا ً وعبقا ً ،
وتسر في نفسه ألحان البشر و السحر ، وهو يستمع للمدائح النبوية ، وينشدها مع الذاكرين ، ورويدا ً رويدا ً جاشت قريحته بالشعر ،
نبع الشعر عنده من لغة الإنسان والطبيعة مولدا ً من الصفاء والرقة ، فأول ما عالج من الشعر الوصفي والوصف عنده تمتمات وزهيرات ،
أثمرتها أحوال الطمأنينة والأمن والسكينة ، فطرقته مداخل أتربا ،فأمكنت عناقه وهدهده نسيم الفجر ينقض الكل على أضلاعه.
فالشيخ "محمد ود الرضي" عندما يصف يتوافق البحر عنده ، وتتراقص الأوزان ، لأن نفحات الحلول تتنفس في كلماته ، من ثمة كان استخدامه للبديع ملحوظا ً ،
إذ يلتمع البرق لأنه وحده يري الغرائب في الكون فيبسطها وتمر بها مخيلته طمعا للإستزادة ،وفي بعض الأحيان تغلبه لغة الإعجاز ليوضح بها معنى الإعجاز ،
فتلتهب كلماته ، وتتجمع عنده اللغة مخالفة ألفاظها لمعانيها ، وكم تراه يود أن يذوب في وصف الطبيعية وكأن الطبيعية خمر صافية حلت له ليشرب منها فلم يشرب ،
ومن ثمة يكون الإبداع في وضوح الرؤية ، ويكون الطرب ،فما من قصيدة واصفة في شعر "ود الرضي" إلا صورة باقية خالدة ،
تنساق فيها المنى وتتغيب فيها الشهوة لتسمو إلى قدرة العفة والطهارة.
وكان الشيخ "محمد ود الرضي" يغيب عن "العيلفون" فترات ، ولكنه يتقرب لأهل "العيلفون" ، ويسأل عن أخبارهم ويتنسم أحداثهم ،
فالذي كان طفلا ً يراه أصبح رجلا ً ، والتي كانت صبية غدت فتاة أو امراة ، وهو ينظر إلى أهله ، أهل "العليفون"،
نظرته لحياته وأسرته ينمو معهم ويعدهم وجودا ً لحياته ، لذلك تراه بتغزل في الفتيات و يقول الطيب المنتقى بهذا البهاء الذي على أؤلئك الفتيات.
مضى مرة إلى "سنار" ليعمل في إنشاء "الخزان" مع العاملين وكان يفئ إلى أسرة من أهله ، وقد كبرت بناتها وذات صباح حل عليهم ضيفا ً وسأل عن البنات ،
فأنكرت أمهن وجودهن في البيت ، ولكن إحداهن كانت تسترق النظر إليه من خلف الجدار فطغى عليه الشعر ، وانطلق يبين محاسنها ،
فابدع قصيدة "عصماء" و كأن قلبه كان ساحرا ً يدعو كل جميل فيسعى للقيام ، وقد تزوجت البنات الثلاث في ضحى الغد.
عاد الشيخ "محمد ود الرضي" إلى الخرطوم لأن الشاعر لا يبدع في غير أرضه ، وقد عرف بالتقى والعفاف ، ولكنه كان يشهد حفلات البهجة والطرب ،
ويغشي مجالس الحسناوات ، ففي الفترة مابين (1922م – 1934م ) ، ما من حسناء راقت لشعره وخياله إلا خلدها بقصيدة ،
وكان الذي يفهم ويدرك أسرار هذه القصائد المرحوم الفنان "محمد أحمد سرور" لذلك كان يغني قصائده ، ويفتن بها ،
وشرط الشيخ "ود الرضي" في نظم شعره أن يشاهد الفتاة ويتحدث معها وياحبذا لو شرب القهوة التي تصنعها فهو يكتفي بالساحل عن البحر ،
ويمسك وضوءه من الفجر حتي العشاء ، والشيخ "محمد ود الرضي" طاف بــ "النيل الأزرق" و "النيل الأبيض" وسافر إلى "الجنوب" ،
ولكنه لم يطق فراق "العيلفون"، من ثمة تراه قادرا ً على تسمية الأماكن ، وإيضاح معالمها وبعض قصائد طويلة لاتغنى ، فيختصر منها ما يوافق الغناء ،
فإن كان "أبو صلاح" قد خصه الله بإدراك جمال أعضاء الجسم وحركاتها ، و "خليل فرح" بتصوير أجواء الطرب والفرحة ،
و "سيد عبد العزيز" بالتأمل في أغوار الجمال وأعماقه ، و "عبيد عبد الرحمن" في الأطياف والأحلام ،
و "إبراهيم العبادي" في رسم الصورة الكاملة للإنسان والطبيعية ، فالشيخ "محمد ود الرضي" خصه الله في انتقاء الفرد من الجمع ،
في سبر ما هو غائب عن الأفئدة والأبصار.
وأجمل شعر في وصف "الشلوخ" كان شعر الشيخ "ود الرضي"، فهذا الشيخ الذي يسري الحسناء كنهر الكوثر ، وذاك الذي يقف كالصراط المستقيم ،
وأحلى تأمل في العيون ، تسمعه وتقرأه في شعر "ود الرضي"، إن الذي أحسن في دراسة الشيخ "محمد ود الرضي" وكتب عنه رائدا ً ومعبرا ً مقدرا ً وناقدا ً ،
هو "الدرديري إبراهيم"، وقد ألقي بحثه في جماعة "أخوان الصفا" التي ضمنت في الستينيات المرحوم الدكتور "جعفر محمد علي بخيت" ،
والدكتور "محمد إبراهيم أبو سليم" والاستاذ "أحمد علي بقادي" وغيرهم.
هذه خطوط عامة ، وليست دراسة متعمقة مفصلة ، وقد عصى الشيخ "محمد ودالرضي" الشيطان في حبه للجمال والطبيعية ، وسما بذلك شعره وحبه.
أجل ، هولاء هم أشياخنا ، جامعاتنا ، وأساتذتنا الذين حببوا لأنفسنا الخير والطيب ، وربطو حياتنا في حب وإحسان وكبرياء لبلادنا وأهلنا في السودان.
_______________
_______________
إن الشيخ "محمد ود الرضي" هو أحد الرواد في الشعر الشعبي السوداني وشيخ شعراء الغناء السوداني ،
فعند حضور الشيخ "ود الفكي" في عهد الخليفة "عبدالله التعايشي"، كان "ود الفكي" قد قدم من منطقة "كبوشية" إلى "أمدرمان"،
في سنوات المهدية الأخيرة ، ونال شهرته الكبيرة بعد دخول الحكم الثنائي السوداني ،
وكان "محمد ود الرضي" من أوائل الشعراء الذين كتبوا الرميات كفن جديد على الغناء السوداني الشعبي وكانت أسلوبا ً يختلف عن "الدوبيت" أيضا ً ،
ويعتبر "محمد ود الرضي" أستاذا ً بهذا اللون في الشعر الغنائي ، وقد لحق به في هذا المجال فيما بعد الشاعر "أبو عثمان جقود"،
و "يوسف حسب الله" سلطان العاشقين ، و "صالح عبدالسيد (أبو صلاح)"، وأخيرا ً "إبراهيم بابكر العبادي" و "عمر البنا"،
ومع أن شعراء كثيرين كتبوا أشعارا ً للطمبور ، ولكن أشعار "ود الرضي" فقط هي التي عاشت إلى يومنا هذا لا زالت تضئ في ليالي الطرب السوداني.
وأهم المنابع التي كونت ثقافة "ود الرضي" وساهمت في شاعريته وصقل موهبته هي حفظه للقرآن والحياة التي عاشها تحت ظلال الصوفية ،
واتصاله بالعلماء الدينيين وحياته وســــط المجتمع الريفي بتقاليده وأشعاره "كالدوبيت" و "المسادير"،
ثم اندمـاجه في المجتمع الحضري ومعاشرته لشعراء المجتمع الحضري أمثال "إبراهيم العبادي" و "سيد عبد العزيز" و "أبو صلاح" وغيرهم ،
وقد عالج "ود الرضي" جمـــيع فنون الشعر من غزل و"دوبيت" ومـــدح ورثاء وهــــجاء وشعر وطني ،
كما أفرد كما ً هائلا ً من شـعره للموعظة والحكمة حتى سمـاه الخليفة "حســب الرسـول ود بدر" «تنبيه الغافلين».
وقد ظهر التأثير الديني وحفظه للقرآن في كل قصائده وتشبيهاته بالألفاظ القرآنية وإليك نماذج لهذه التشبيهات في أشعاره..
في قصيدة "أحرموني ولاتحرموني" تجد بدايتها..
"أحرموني ولاتحرموني..سنة الإسلام السلام"..
وفي قصيدة "الغواني البارع جماله" يقول..
"حال تمخول دارس الرسالة..عن صلاته إتلاهى ونسا له"..
أما قصيدته "المرنوعة" فيقول مشبها ً قدم حبيبته (بالعهن المنفوش) فيقول..
"كالعهن المنفوش قدماها..بي مس الحرير أدماها"..
و "ود الرضي" اهتمامه بالحياة الدينية كبير لأنه تربى في الوسط الديني فيقول في زوجته في قصيدة "ست البيت"..
"منها خلاف قط ماحصل لي غير لاضماني بي قوم صلي"..
وهذا يدل على حرصه لاختيار زوجة صالحة تؤدي صلواتها ،وحتى الصوفية لم يخل منها شعر "ود الرضي" الغزلي ،
وهاهو يقول في قصيدة "نســــائم الـلـيـل" يستنجد فيها بالفقراء والصالحين لكتابة حجاب يقيه شر هذا الحب ومن صدود محبوبته فيقول..
"آه أنا الضاق بي الفياض..سيدنا أحجبني هاك بياض"..
وقد نظر "ود الرضي" في مذهب الإمام "مالك" إذ يقول في قصيدته "البريق العاتم سماه"..
"إمتى حرمك أدخل حماه قال لي مذهب مالك حماه"..
و "ود الرضي" يبالغ في وصف محبوبته فيقول في قصيدة "حبابو"..
"تشيل قلب الفكي الدين تصبح سيدنا متطين"..
ولاينسى "ود الرضي" أن يسجد لله شكرا ً لو المحبوبة جادت عليه بمقابلة أو بنظرة فيقول في قصيدة "أبكار حوارينا"..
"لو بي مرادي..الرب يجود نذرا ً علي ركعه وسجود"..