محاولات الأمهات والآباء توفير ظروف أسرية مستقرة شيء يستحق العناء والتعب، لما له من
فوائد على النواحي الصحية للوالدين أنفسهم ولأطفالهم. كما أن تمادي أحد الوالدين أو كليهما في تعكير صفاء الاستقرار الأسري هو عامل قد يتسبب في اضطرابات صحية تطال أفراد الأسرة كلهم. هذا كلام بلا شك سمعنا عنه كثيراً، وله مبررات منطقية ونفسية وإنسانية. ودعمت العديد من الدراسات الطبية صحته بإثباتها أن هناك ارتباطاً بين الإصابات بمجموعة من الأمراض وبين التوتر الأسري. لكن الجديد في جانب الدراسات الطبية هو ما طرحه الباحثون من جامعتي أريزونا وويسكنسن من أن الفتيات اللواتي ينشأن في محيط أسري يتمتعن فيه بالدعم والحنان والرعاية من قبل الآباء والأمهات، ويتمتعن فيه أيضاً بالإحساس بعمق الرباط من الود والمحبة وحُسن التعامل فيما بين الآباء والأمهات، فإن هؤلاء الفتيات من المحتمل أن تتأخر لديهن بداية فترة البلوغ onset of puberty ويتجنبن بالتالي المرور المبكر بتلك المراحل. وهو ما يعني أنهن سيتمتعن بالعيش في مرحلة الطفولة مدة زمنية أطول، هذا بالمقارنة مع غيرهن من الفتيات اللواتي لا يحرص آباؤهن أو أمهاتهن على توفير حالة من الاستقرار في محيط الأسرة لهن. ونشر الدكتور بروس إليس، من جامعة أريزونا، والدكتورة مارلين إيسكس، من جامعة ويسكنسن، دراستهما، في عدد نوفمبر/ ديسمبر من مجلة «تطور نمو الطفل» الصادرة عن مجمع أبحاث تطور نمو الطفل بالولايات المتحدة. وكان جزء من الدعم للدراسة مقدماً من المؤسسة القومية للصحة العقلية في الولايات المتحدة.
ومن المهم التمييز بين ثلاثة أمور بالنسبة لوقت بدء عمليات البلوغ. الأمر الأول هو أن ثمة حالات بلوغ مبكر وحالات بلوغ متأخر، وفق تعريف طبي مبني على عدد سنوات العمر. والأمر الثاني هو أن ثمة عوامل قد تُعجل ببدء عمليات البلوغ، لكن ضمن الفسحة الزمنية الطبيعية للبدء فيها. والأمر الثالث أن هناك سرعة طبيعية لتتابع واكتمال حصول البلوغ منذ بدء أولى مراحله، وهناك أيضاً عوامل قد تُبطئ من تلك السرعة الطبيعية. والحديث في الدراسة الطبية الصادرة عن الباحثين من الولايات المتحدة هي عن التعجيل بالبدء في عمليات البلوغ ضمن الفسحة الزمنية الطبيعية للبدء فيها. * مرحلة البلوغ * وأشار الباحثون في مقدمة الدراسة إلى أن البلوغ المبكر للفتيات في بعض المجتمعات، خاصة المتحررة منها، يُعتبر لدى العديد من المراجع الطبية في الولايات المتحدة عامل زيادة في خطورة التعرض لمجموعة من المشاكل الصحية. وهذه تشمل اضطرابات نفسية مزاجية، وإدماناً، وحملاً في فترة المراهقة والإصابات بالسرطان في الأعضاء التناسلية. وأشاروا إلى أن الأخذ بعين الاعتبار، ارتفاع انتشار الاحتمالات تلك في بعض المجتمعات لا بد أن يُحتم البحث عن استراتيجيات لتقليلها ومنعها. ووفق ما تقوله المؤسسة القومية الأميركية لصحة الطفل وتطور النمو البشري، فإن الوقت الذي في خلاله، يتم للطفل النضج الجنسي، هو ما يُسمى بفترة البلوغ. وهي تغيرات عضوية بالأساس تحصل فيما بين سن العاشرة والرابعة عشرة لدى البنات، وفيما بين الثانية عشرة والسادسة عشرة لدى الأولاد. وتبعاً لتغيرات هورمونية مختلفة بين الأولاد والبنات، فإن ثمة تغيرات تطول الأولاد والبنات على السواء. وهي ما تشمل تغيرات في المزاج وطريقة التفكير والتصرفات، هذا من الجانب النفسي. أما من الجانب البدني، فتحصل الزيادة في الطول والزيادة في الوزن، إضافة إلى احتمالات ظهور حب الشباب وبدء نمو الشعر تحت الإبطين وعلى منطقة العانة. هذا بالإضافة إلى بدء مراحل نمو حجم الثدي وبدء حصول الدورة الشهرية لدى الفتيات. في حين أن الأولاد يبدأ لديهم نمو أكبر في حجم عضلات الجسم، ويتغير صوتهم، كما ينمو حجم العضو والخصيتين. * نظرية وتطبيق * وبنى الباحثون دراستهم الجديدة على أبحاث سابقة تم نشرها في عام 1991 لطبيب النفسية الدكتور جاي بيلسكي حول دور الأسرة في حيوية سرعة أو بطء عملية البلوغ لدى الفتيات. وهي النظرية التي تقول بأن التجارب المبكرة للأطفال تُؤثر في كيفية تطور نموهم وبلوغهم النضج. وعليه فإن وجود توترات تحيط بالأسرة قد يصنع ظروفاً تُعجل بالبلوغ وبدء ممارسة الأنشطة الجنسية، لأن جسم الطفل سيتبنى التكيف مع تلك الظروف بضبط النمو الجنسي لديه وفقاً لما يعيشه من حال. وأعطى واضعو النظرية تلك أمثلة كالفقر، والمشاحنات بين الوالدين، والتمزق الأسري، والسلبية في التفاهم مع الوالدين، واعتمادهما على الإجبار في التعامل مع الأطفال، وتدني مستوى الدعم من قبل الوالدين لبعضهما البعض أو لأطفالهما. ولاختبار مدى صحة هذه النظرية، قام الباحثون بفحص كيفية تأثر تطور نمو الأطفال حال معايشة هذه الظروف الضاغطة والموترة، وذلك بدراسة متابعة، استمرت سنوات، لأوضاع وظروف أسر حوالي 230 من الأطفال في مرحلة ما قبل دخول المدرسة، من سكان ويسكنسن. وعبر مقابلة الأمهات والآباء في تلك الأسر، قام الباحثون بتقييم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لها، ومدى وجود مشاحنات بين الوالدين فيها، أو وجود حالات من الاكتئاب لدى أحد الوالدين أو كليهما، ومدى توفيرهما الدعم للأطفال أو اعتمادهما أسلوب الإجبار عليهم. واستمرت الدراسة في متابعة الأطفال حتى خلال المرحلة الدراسية المتوسطة عبر إفادات «الأم والابنة»، وذلك لمعرفة متى تحصل أولى التغيرات الهورمونية، المُصاحبة لبدء مرحلة البلوغ. كما لرصد بدء ظهور الخصائص الجنسية الثانوية، مثل بدايات نمو الثدي وبدايات ظهور الشعر الأنثوي على مناطق من الجسم. نتائج مهمة وتبين من خلال تحليل الباحثين لمجمل نتائج المتابعة أن الأطفال الذين يعيشون في عائلات تتمتع بقدر أكبر من دعم الوالدين، وتحديداً من الأب ومن الأم، أي من كليهما، وفي عائلات تحصل فيها مشاجرات زوجية أقل، وتتدنى فيها حالات اكتئاب الآباء على وجه الخصوص، فإن أولى التغيرات الهورمونية المُصاحبة لبدء مرحلة البلوغ تتأخر في الحصول، وذلك لدى مقارنة حال هؤلاء الأطفال مع الأطفال من عائلات تفتقر إلى كل أو بعض تلك النواحي الإيجابية في مستوى استقرار الأسرة. كما لاحظ الباحثون أن أطفال الأمهات اللواتي تأخر لديهن بدء مرحلة البلوغ، أي ذوي عامل وراثي في تأخر البلوغ، والأطفال الذين كانت أحوالهم الأسرية أفضل حينما كانوا أطفالاً في سن ما قبل الدخول إلى المدرسة، والأطفال الذين أوزانهم معتدلة ولا يشكون من زيادة في الوزن، فإن هؤلاء الأطفال تظهر على أجسامهم الخصائص الجنسية الثانوية للبلوغ في وقت متأخر عن بقية أقرانهم ممن لم يتمتعوا بمثل تلك المميزات الأسرية. وقال الدكتور إيليس، وعلى نسق متجانس مع هذه النظرية: إن نوعية رعاية وإحاطة الوالدين لأطفالهم أنشأت صفة محورية في ظروف الأفراد القريبين للأسرة، أي البنات، أثرت بشكل مترابط في وقت بدء مراحل البلوغ. والنتائج تكرر وتعطي مزيداً من الدعم للدراسات الطويلة السابقة التي أشارت إلى أن المستوى العالي من الإحاطة الإيجابية والدعم في نوعية العلاقة الأسرية التي يعيشها الأطفال حتى في مراحل ما قبل دخول المدرسة، يُؤدي إلى خفض مستويات سرعة البلوغ لدى البنات